فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فأخبره ربه بما يدور حتى في النفوس، كأنه سبحانه يقول لرسوله: إياك أن تظن أنني سأؤاخذهم بما عرفتَ من أفعالهم فحسب، بل بما لا تعلم مما فعلوه، ليطمئن رسول الله أنه سبحانه يُحصي عليهم كل شيء.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَهُوَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ}.
الله: هو المعبود بحقٍّ، وله صفات الكمال كلها، وهو سبحانه {لا إله إِلاَّ هُوَ} [القصص: 70] وما دام هو وحده سبحانه، فلا أحد يفتن عليه، أو يستدرك عليه بشيء، وسبق أن قال لهم: هاتوا شركاءكم لنفصل في مسألة العبادة علانية ونفاصل من صاحب هذه السلعة: أي يوم القيامة.
ومعنى: {الأولى} [القصص: 70] أي: الخَلْق الذي خلقه الله، والكون الذي أعدَّه لاستقبال خليفته في الأرض: الشمس والقمر والنجوم والشجر والجبال والماء والهواء والأرض، فقبل أنْ يأتي الإنسان أعدَّ الله الكونَ لاستقباله.
لذلك حينما يتكلم الحق سبحانه عن آدم لا يقول: إنه أول الخَلْق، إنما أول بني آدم، فقد سبقه في الخلق عوالم كثيرة؛ لذلك يقول تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا} [الإنسان: 1] أي: لم يكن له وجود.
وإعداد الكون لاستقبال الإنسان جميل يستوجب الحمد والثناء، فقد خلق الله لك الكون كله، ثم جعلك تنتفع به مع عدم قدرتك عليه أو وصولك إليه، فالشمس تخدمك، وأنت لا تقدر عليها ولا تملكها، وهي تعمل لك دون صيانة منك، ودون أن تحتاج قطعة غيار، وكذلك الكون كله يسير في خدمتك وقضاء مصالحك، وهذا كله يستحق الحمد.
وبعد أنْ خلقك الله في كون أُعِدّ لخدمتك تركك ترتع فيه، ذرة في ظهر أبيك، ونطفة في بطن أمك إلى أنْ تخرج للوجود، فيضمك حضنها، ولا يكلفك إلا حين تبلغ مبلغ الرجال وسِنّ الرشد، ومنحك العقل والنضج لتصبح قادرًا على إنجاب مثلك، وهذه علامة النضج النهائي في تكوينك كالثمرة لا تخرج مثلها إلا بعد نُضْجها واستوائها.
لذلك نجد في حكمة الله تعالى ألاَّ يعطي الثمرة حلاوتها إلا بعد نُضْج بذرتها، بحيث حين تزرعها بعد أكْلها تنبت مثلها، ولو أُكلت قبل نُضْجها لما أنبتت بذرتها، ولا نُقرض هذا النوع؛ لذلك ترى الثمرة الناضجة إذا لم تقطفها سقطت لك على الأرض لتقول لك: أنا جاهزة.
لذلك نلحظ عندنا في الريف شجرة التوت أو شجرة المشمس مثلًا يسقط الثمر الناضج على الأرض، ثم ينبت نباتًا جديدًا، يحفظ النوع، ولو سقطت الثمار غير ناضجة لما أنبتت.
وكذلك الإنسان لا ينجب مثله إلا بعد نُضْجه، وعندها يُكلِّفه الله ويسأله ويحاسبه. إذن: على الإنسان أنْ يسترجع فضل الله عليه حتى قبل أنْ يستدعيه إلى الوجود، وأنْ يثق أن الذي يُكلِّفه الآن ويأمره وينهاه هو ربُّه وخالقه ومُربِّيه، ولن يكلِّفه إلا بما يُصلحه، فعليه أنْ يسمع، وأنْ يطيع.
وقوله تعالى: {والآخرة} [القصص: 70] يعني: له الحمد في القيامة، كما قال سبحانه: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [يونس: 10] فيحمد الله في الآخرة؛ لأنه كان يمتعني في الدنيا إلى أمد، ويمتعني في الدنيا على قَدْر إمكاناتي، أما في الآخرة فيعطيني بلا أمد، وعلى قَدْر إمكاناته هو سبحانه، فحين نرى هذا النعيم لا نملك إلا أنْ نقول: الحمد لله، وهكذا اجتمع لله تعالى الحمد في الأولى، والحمد في الآخرة.
وقوله تعالى: {وَلَهُ الحكم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 70] لأن الآخرة ما كانت إلا للحكم وللفصل في الخصومات، حيث يعرف كلٌّ ما له وما عليه، فلا تظن أن الذين آذوْك وظلموك سيُفِلِتون من قبضتنا.
{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 70] أي: للحساب، وفي قراءة: {تَرْجعون} لأنهم سيرجعون إلينا ويأتوننا بأنفسهم، كأنهم مضبوطون على ذلك، كالمنبه تضبطه على الزمن، كذلك هم إذا جاء موعدهم جاءونا من تلقاء أنفسهم، دون أن يسوقهم أحد.
وعلى قراءة: {تُرْجَعُونَ} [القصص: 70] إياكم أن تظنوا أنكم بإمكانكم أن تتأبَّوْا علينا، كما تأبِّيتُم على رسُلنا في الدنيا؛ لأن الداعي في الدنيا كان يأخذكم بالرفق واللين، أما داعي الآخرة فيجمعكم قَسْرًا ورَغْمًا عنكم، ولا تستطيعون منه فكاكا {يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: 13]. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)}.
التفسير: إنه سبحانه بعد تتميم قصة موسى أراد أن يبين إعجاز نبينا صلى الله عليه وسلم فذكر أوّلًا أنه أعطى موسى الكتاب بعد إهلاك فرعون وقومه حال كون الكتاب أنوارًا للقلوب وإرشادًا لأهل الضلال وسببًا لنيل الرحمة إرادة أن يتذكروا، ويجوز أن يعود ترجي التذكر إلى موسى. ثم أجمل عظائم أحوال موسى وبين أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن هناك فقال: {وما كنت بجانب الغربي} أي بجانب المكان الواقع في شق الغرب وهو ناحية الشأم التي فيها قضى إلى موسى أمر الوحي والاستنباء. {وما كنت من الشاهدين} على ذلك فقد يكون الشخص حاضرًا ولا يكون شاهدًا ولا مشاهدًا. قال ابن عباس: التقدير لم تحضر ذلك الموضع ولو حضرت فما شاهدت تلك الوقائع فإنه يجوز أن يكون هناك ولا يشهد ولا يرى. ثم قال: {ولكنا أنشأنا} بعد عهد موسى إلى عهدك {قرونًا فتطاول عليهم العمر} فاندرست العلوم والشرائع ووجب إرسالك إلى خرهم قرنًا وهو القرن الذي أنت فيه، فأرسلناك وعرّفناك أحوال الأنبياء.
وحاصل الآية أنه ذكر سبب الوحي الذي هو إطالة الفترة ودل به على المسبب والغرض بيان إعجازه كأنه قال: إن في إخبارك عن هذه الأشياء من غير حضور ولا مشاهدة ولا تعلم من أهله، دلالة ظاهرة على نبوّتك. ثم فصل ما أجمل فذكر أوّل أمر موسى وبين أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن هناك وهو قوله: {وما كنت ثاويًا} مقيمًا {في أهل مدين} وهم شعيب والمؤمنون به {تتلوا عليهم آياتنا} قال مقاتل: أي لم تشهد أهل مدين وأنت تقرأ على أهل مكة خبرهم، ولكنا ارسلناك إلى أهل مكة وأنزلنا عليك هذه الأخبار ولولا ذلك ما علمتها. وقال الضحاك: يقول يا محمد: إنك لم تكن رسولًا إلى أهل مدين تتلو عليهم الكتاب وإنما الرسول غيرك {ولكنا كنا مرسلين} في كل زمان رسولًا فأرسلنا إلى أهل مدين شعيبًا وأرسلناك إلى العرب لتكون خاتم الأنبياء. ثم ذكر أوسط أمر موسى وأشرف أحواله وبين أنه لم يكن هناك فقال: {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا} الأظهر أنه يريد مناداة موسى ليلة المناجاة وتكليمه. وعن بعض المفسرين أنه اراد قوله: {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها} [الإعراف: 156] إلى قوله: {المفلحون} [الأعراف: 157] وقال ابن عباس: إذ نادينا أمتك في أصلاب آبائهم يا أمة محمد أجيبكم قبل أن تدعوني وأعطيكم قبل أن تسألوني وأغفر لكم قبل أن تستغفروني. قال: وإنما قال الله تعالى ذلك حين اختار موسى سبعين رجلًا لميقات ربه. وقال وهب: لما ذكر الله لموسى فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال: يا رب أرنيهم. قال: إنك لن تردكهم وإن شئت أسمعتك أصواتهم. قال: بلى يا رب. فقال: يا أمة محمد فأجابوه من أصلاب آبائهم فقال سبحانه: أجبتكم قبل أن تدعوني الحديث كما ذكر ابن عباس. وروى سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قوله: {وما كنت بجانب الطور إذ نادينا} قال: «كتب الله كتابًا قبل أن يخلق الخلق بألفي عام ثم وضعه على العرش ثم نادى يا أمة محمد: إن رحمتي سبقت غضبي، أعطيتكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني، من لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله أدخله الجنة» قوله: {ولكن رحمة} أي ولكنا علمناك {رحمة من ربك} ثم فسر الرحمة بقوله: {لتنذر قومًا ما أتاهم من نذير من قبلك} أي في زمان الفترة بينك وبين عيسى وهو خمسمائة وخمسون سنة. وقيل: كانت حجة الأنبياء قائمة عليهم ولكنه ما بعث إليهم من يجدد تلك الحجة عليهم، فبعثه الله تعالى تقريرًا لتلك التكاليف وإزالة لتلك الفترة.
قوله: {ولولا أن تصيبهم} هي امتناعية وجوابها محذوف. والفاء في قوله: {فيقولوا} للعطف على أن تصيبهم، وقوله: {لولا أرسلت} هي تحضيضية. والفاء في {فنتبع} جواب {لولا} وذلك أن التحضيض في حكم الأمر لأن كلًا منهما بعث على الفعل. والمعنى: ولولا أنهم قائلون إذا عوقبوا على ما قدّموا من الشرك والمعاصي هلا أرسلت إلينا رسولًا محتجين علينا بذلك لما أرسلنا إليهم. والحاصل أن إرسال الرسول لجل إزالة هذا العذر. قال اصحاب البيان: القول هو المقصود بأن يكون سببًا لإرسال الرسل، ولكن العقوبة لما كانت هي السبب للقول أدخلت عليها {لولا} وجيء بالقول معطوفًا عليها بفاء السببية تنبيهًا على أنهم لو لم يعاقبوا على كفرهم ولم يعاينوا العذاب لم يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولًا، فالسبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير لا التأسف على ما فاتهم من الإيمان، وفي هذا يبان استحكام كفرهم وتصميمهم. قال الجبائي: في الآية دلالة على وجوب اللطف وإلا لم يكن لهم أن يقولوا لولا أرسلت. وقال الكعبي: فيه دليل على أنه تعالى يقبل حجة العباد فلا يكون فعل العبد بخلق الله وإلا لكان للكافر أعظم حجة على الله تعالى. وقال القاضي: فيه إبطال الجبر لأن اتباع الآيات لو كان موقوفًا على خلق الله فأيّ فائدة في قولهم هذا. ومعارضة الأشاعرة بالعلم والداعي معلومة.
ثم بين أنهم قبل البعثة يتعلقون بشبهة وبعد البعثة يتعلقون بأخرى فلا مقصود لهم إلا العناد فقال: {فلما جاءهم الحق} أي الرسول المصدّق بالكتاب المعجز {قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى} من الكتاب المنزل جملة ومن سائر المعجزات كقلب العصا حية واليد البيضاء وفلق البحر، فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بقوله: {أولم يكفروا} وفيه وجوه: أحدها أن اليهود أمروا قريشًا أن يسألوا محمدًا مثل ما أوتي موسى فقال تعالى: {أولم يكفروا} هؤلاء اليهود الذين اقترحوا هذا السؤال بموسى مع تلك الآيات الباهرة. والذين أوردوا هذا الاقتراح يهود مكة، والذين كفروا بموسى من قبل أو بما أوتي موسى من قبل هم الذين كانوا في زمن موسى إلا أنه تعالى جعلهم كالشيء الواحد لتجانسهم في الكفر والعنت. وقال الكلبي: إن مشركي مكة بعثوا رهطًا إلى يهود المدينة يسألهم عن محمد وشأنه فقالوا: إنا نجده في التوراة بنعته وصفته، فلما رجه الرهط إليهم فأخبروهم بقول اليهود قالوا: إنه كان ساحرًا كما أن محمدًا ساحر فقال الله تعالى في حقهم {أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل}. وقال الحسن: قد كان للعرب أصل في أيام موسى فالتقدير: أولم يكفر آباؤهم بأن قالوا في موسى وهارون ساحران تظاهرا أي تعاونا.
وقال قتادة: أولم يكفر اليهود في عصر محمد بما أوتي موسى من قبل من البشارة بعيسى ومحمد عليه السلام ف {قالوا ساحران} والأظهر أن كفار مكة وقريش كانوا منكرين لجميع النبوات. ثم إنهم طلبوا من محمد معجزات موسى فقال الله تعالى: {أولم يكفروا بما أوتي موسى} بل بما أوتي جميع الأنبياء من قبل؟ فعلم أنه لا غرض لهم في هذا الاقتراح إلا التعنت. من قرأ: {ساحران} بالألف فظاهر، وأما من قرأ: {سحران} فإما بمعنى ذوي سحر أو على جعلهما سحرين مبالغة في وصفهما بالسحر، أو على إرادة نوعين من السحر، أو على أن المراد هو القرآن والتوراة. وضعفه أبو عبيدة بأن المظاهرة بالناس وأفعالهم اشبه منها بالكتب. وأجيب بأن الكتابين لما كان كل واحد منهما يقوّي الآخر لم يبعد أن يقال على سبيل المجاز تعاونا كما يقال تظاهرت الأخبار. وفي تكرار {قالوا} وجهان: أحدهما قالوا ساحران مرة {وقالوا إنا بكل} من موسى ومحمد أو بكل من الكتابين {كافرون} مرة. وثانيهما أن يكون قوله: {وقالوا} معطوفًا على {أولم يكفروا} ثم عجزهم بقوله: {قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما} أي مما أنزل على موسى ومما أنزل عليّ. قال ابن عباس {فإِن لم يستجيبوا لك} معناه فإن لم يؤمنوا بما جئت به من الحجج. وقال مقاتل: فإن لم يمكنهم أن يأتوا بكتاب أفضل منهما. وهذا اشبه بالآية، وهذا الشرط شرط يدل بالأمر المتحقق لصحته وإلا فالظاهر أن لو قيل فإذا لم يستجيبوا. ويجوز أن يقصد بحرف الشك التهكم. وإنما لم يقل فإن لم يأتوا لأن قوله: {فأتوا} أمر والأمر دعاء إلى الفعل فناسب الاستجابة والتقدير: فإن لم يستجيبوا دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى فاعلم أنهم صاروا محجوبين ولم يق لهم شيء إلا اتباع الهوى. وفي قوله: {ومن أضل ممن اتبع هواه} حال كونه {بغير هدى من الله} إشارة إلى فساد طريقة التقليد. استدلت الأشاعرة بقوله: {إن الله لا يهدي القوم الظالمين} أي الذين وضعوا الهوى مكان الهدى على أن هداية الله تعالى خاصة بالمؤمن. وقالت المعتزلة: الألطاف منها ما يحسن فعلها مطلقًا ومنها مالا يحسن إلا بعد الإيمان وإليه الإشارة بقوله: {والذين اهتدوا زادهم هدى} [محمد: 17] والآية محمولة على القسم الثاني دون الأول وإلا كان عدم الهداية عذرًا لهم. ثم أجاب عن قولهم هلا أوتي محمد كتابه دفعة واحدة بقوله: {ولقد وصلنا} أي أنلزنا عليهم القرآن إنزالًا متصلًا بعضه في أثر بعض ليكون ذلك اقرب إلى التذكر والتذكير والتنبيه فإِنهم يطلعون في كل يوم على فائدة زائدة وحكمة جديدة. ويجوز أن يراد بتوصيل القول جعل بيان على إثر بيان والمعنى أن القرآن أتاهم متتابعًا متواصلًا ووعدًا ووعيدًا وقصصًا وعبرًا إلى غير ذلك من معاني القرآن إرادة أن يتعظوا فيفلحوا.